فن

بين الأدب والسياسة: بحثٌ في ذاكرة الألم

كيف يمكن للأدب أن يحمل ذاكرة الألم، ويوثق معاناة شعب، ويُعيد للأمل مكانته في وسط المأساة؟ اكتشف في هذا المقال قصة سوريا، بين الظلم والتحرر، وبين الروايات التي تحفظ الحقائق والواقع الذي يصنع التاريخ.

future صورة تعبيرية (تجمع بين غلاف رواية «بينما تنمو أشجار الليمون» وصورة لسيدة بميدان في سوريا)

حين قررتُ المشاركة، لم يمر بذهني سوى تاريخ واحد، لحظة واحدة اختزلت في طياتها الكثير من المعاني: 27 نوفمبر. في ذلك اليوم، أطلقت فصائل المعارضة السورية، تحت قيادة هيئة تحرير الشام، عملية عسكرية حملت اسم «ردع العدوان»، انتهت بتحرير جميع المعتقلين من السجون الرئيسية في المدن السورية.

كان أول ما تبادر إلى ذهني حينها سجن صيدنايا، وأول سؤال طرحته على صديقتي بتوجس يختلط بالأمل: «تُرى، هل خرج؟»

لكن قبل أن أخبركم عن ذاك الذي يقف وراء سؤالي، لا بد أن أتوقف عند العلاقة الملتبسة بين الأدب والسياسة، وكيف يمكن لقارئة لا تدَّعي الفهم العميق في السياسة أن تخوض في غمارها. فأنا لستُ سوى قارئة، أبحث في الكتب عن إجابات لأسئلة الواقع، وأسعى لفهم تعقيداته بعيدًا عن ضجيج التحليلات الاستراتيجية، الإعلامية، العسكرية، والسياسية.

كنتُ أرى الطلاب السوريين الدمشقيين منتشرين في أروقة الكليات، في المقاهي والمكتبات، في كل زاوية، يحملون حكايا من بلادهم التي تركوها خلفهم. لم يكن الفهم يسيرًا منذ اللحظة الأولى؛ احتجتُ إلى البحث، إلى السؤال، إلى تقصي الحقائق. ولاحظتُ أنني كلما تعمقتُ، ازداد تيهي، وكأنني أدور في متاهة ليس لها فُتحة خروج.

وحين عجزت الأسئلة عن منحي إجابات واضحة، لجأتُ إلى الكتب، لعلّي أعثر على ضالتي.

سوريا التي لم يخبرني بها أحد

لا أتذكر تحديدًا كيف بدأت رحلتي في اكتشاف واقع سوريا، لكنني أتذكر جيدًا تلك الروايات التي حفرت أحداثها في ذاكرتي، روايات لم تكن مجرد خيال أدبي كما ادعى كُتابها، بل كانت مرايا تعكس لي واقعًا قاسيًا عاشه آخرون بينما كنا نحنُ نقف على الضفة الآمنة، نراقب في صمت.

في كل صفحة، كانت سوريا تتجلى أمامي بوجوه معتقليها، بآلام من مروا بتجربة السجن والتنكيل، بأصوات من سُلبت حريتهم لسنوات.

قرأتُ «خمس دقائق وحسب: تسع سنوات في سجون سورية»، «بالخلاص، يا شباب! 16 عامًا في السجون السورية»، «القوقعة»، «يسمعون حسيسها»، «بيت خالتي»، و«بينما تنمو أشجار الليمون».

ومن خلال هذه الكتب، اكتشفتُ سوريا التي لم يخبرني عنها أحد، سوريا التي لم تصلني عبر الأخبار والتقارير، بل عبر شهادات من عاشوا الألم بكل تفاصيله.

تشترط المسابقة أن نكتب عن حدث عالمي أثَّر على منطقتنا، أو عن حدث ترك بصمته في مجال الأدب. وبالنسبة لي، لا أجد حدثًا جمع بين الاثنين أكثر من تحرر سوريا من حكم بشار الأسد، وتحرير سجونها، وعلى رأسها معتقل صيدنايا.

سوريا، منذ الشرارة الأولى للثورة وحتى لحظة التحرير، لن يُنسى. وإن حاول العالم أن يطوي صفحته، ستظل كتب التاريخ والروايات شاهدة عليه، وسنروي نحن تفاصيله لأطفالنا وللأجيال القادمة، حتى لا يتكرر الألم، وحتى لا تُمحى الحقيقة من الذاكرة.

كتب أحمد خيري العمري ذات مرة:

«عندما تسمع عن تفاصيل ظلم ما، قد تحزن وقد تغضب. قد تغرق في اكتئاب لا قاع له.. لكن أكثر ما يؤلمك، هو شعورك بالعجز تجاه هذا الظلم، شعورك أنك لا تستطيع أن تفعل أي شيء هو الأصعب. أن أُمحي ما سمعت، لقد حاولته بالفعل.. إن أدمغتنا تحاول أحيانًا أن تأخذ موقفًا دفاعيًا من الألم عبر نسيان أشياء معينة، لكنّ وعيي كان أقوى من حيلة النسيان. فكان من الصعب أن أواصل كما لو أن شيئًا لم يحدث.. كما لو أني لم أعلم».

بين الحياة والموت: تأملات في المأساة السورية

أتساءل.. هل من الصعبِ حقًا التمسك بإنسانيتنا؟ ولماذا يبدو الحفاظ على القيم الأساسية كالرحمة والتعاطف، رفاهية في عالمٍ يموج بالمآسي؟

في كل مرة أقرأ خبرًا عن سوريا، أو أستمع إلى حكاية عمَّن عاشوا أهوالها، أو حتى أتابع تطورات ما لا يزال يحدث هناك، أدرك كم أنا محظوظة. أتنفسُ دون قلق، أتناول طعامًا دافئًا دون خوف من أن ينفد، أشرب ماءً نظيفًا متى شئت، أستحم دون التفكير في أن تكون هذه الرفاهية هي الأخيرة، وهناك سقفٌ يحجب عني برد الشتاء ولهيب الصيف.

لكن هناك، في سوريا، لم تعد هذه الأشياء من المسلَّمات. الموت أصبح المحور الذي تدور حوله الحياة، كأنه اليقين الوحيد في واقعٍ متغير، حتى بات التفكير فيه جزءًا من يومياتهم. الأطفال.. تلك الأرواح البريئة التي يُفترض أن تكون أحلامهم ممتدة إلى حدود السماء، أضحت أقصى أمانيهم الاختفاء، علّ الخوف ينتهي، علّ الألم يتوقف.

كان آخر ما قرأته عن سوريا رواية بينما تنمو أشجار الليمون للكاتبة زُلفى ياسر درويش، وفي كل صفحة منها، كنتُ أواجه الحقيقة نفسها: هناك من يعيش في عالم آخر، حيث البقاء ليس مضمونًا، وحيث الحياة ليست إلا نقيضًا مؤقتًا للموت.

تقول زُلفى: «كانت هناك أسباب عديدة دفعتني إلى الكتابة، وكان أحدها الرئيسي هو تلك النار التي كانت تشتعل بداخلي، لأكتب قصة عنا.. من أنفسنا، في ضوء لم نره من قبل. وحتى يعرفُنا العالم، فنحنُ لسنا مجرد أرقام».

«بينما تنمو أشجار الليمون».. شهادة أدبية على مأساة سوريا

على مدار أكثر من عشر سنوات، أُجبر ملايين السوريين على مغادرة منازلهم، بلادهم، وحياتهم التي عرفوها، ليصبح اللجوء خيارًا مفروضًا لا اختيارًا. في روايتها «بينما تنمو أشجار الليمون»، تسعى زُلفى درويش إلى توثيق هذه المعاناة، ونقلها إلى العالم، لتروي قصة سوريا التي مزّقتها الحرب، وسوريا التي لم تعد كما كانت.

تتمحور الرواية حول «سلامة»، الفتاة التي وجدت نفسها طبيبة قبل أن تتخرج رسميًا، والتي تعيش مع «ليلى»، زوجة أخيها الحامل، آخر ما تبقى لها من أسرتها. في ظل الفوضى والدمار، تحاول سلامة إخراج ليلى من سوريا، حيث لم تعد الحياة ممكنة، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع الرحيل، لأن الرحيل يعني التخلي عن «حمزة»، شقيقها المعتقل في سجن صيدنايا، بعد مشاركته في احتجاجات ضد النظام.

كل يوم، تواجه سلامة أهوال الحرب، ترى الموت يتكرر أمام عينيها، وتشهد الأطفال يفارقون الحياة، ليس بسبب عجزها كطبيبة، بل بسبب ندرة الموارد التي تجعلها أمام خيار مرعب: من يحق له أن يعيش؟ ومن سيُترك للموت؟

وفي موازاة ذلك، نلتقي بـ«كنان»، الشاب الذي يتمزق بين رغبته في البقاء في وطنه، وبين واجبه في حماية إخوته الصغار، بينما تضيق به سوريا، التي لم تعد تتسع لأحلامه ولا حتى لحياته.

لكن الشخصية الأكثر حضورًا في الرواية ليست سلامة أو كنان، بل «الخوف»، ذلك الشعور الذي تسلل إلى كل بيت لم يُهدم بعد، وإلى كل قلب سوري لا يزال ينبض. أصبح الخوف هو المحراث الذي يحرث آلامهم، لكنه أيضًا الأداة التي تزرع آمالهم، في انتظار اليوم الذي تزهر فيه سوريا من جديد.

سوريا.. حين تزهر أشجار الليمون من جديد

على الرغم من أن كل ما ورد في رواية «بينما تنمو أشجار الليمون» موثَّق في الأخبار والتقارير وعلى الإنترنت منذ أكثر من عقد، إلا أن القليل فقط يدركون حجم المأساة. ورغم كونها قصة خيالية، إلا أنها تعكس واقعًا مريرًا عاشه عدد لا يُحصى من السوريين الذين فقدوا كل شيء، لكنهم وجدوا في أعماقهم القوة للمثابرة.

الغرض الرئيس من هذا الكتاب، ومن كل شهادة توثق الألم، هو رفع مستوى الوعي. فهناك واقعٌ آخر يحدث بالتوازي مع عالمنا، لكنه يبدو كأنه ينتمي إلى بعدٍ منفصل، عالمٌ حيث الحياة لا تشبه الحياة، وحيث الظل الرمادي يغطي كل شيء.

في 8 ديسمبر 2024، تحررت دمشق بالكامل ضمن عملية «ردع العدوان»، وسقط نظام بشار الأسد بعد 24 عامًا من الحكم، مُنهيًا بذلك حقبة امتدت 54 عامًا من حكم آل الأسد منذ انقلاب 1970. فرّ الأسد مع عائلته، وسوريا التي ظلت عالقة في دوامة الرماد والدمار، أخيرًا استعادت بعض ملامح الأمل.

قبل هذا التاريخ، كانت سوريا رمادية. كانت المدن المدمرة، ووجوه الجائعين، والعيون المعلقة بالسماء بحثًا عن معجزة، كلها تنتمي إلى لوحة كئيبة من الألوان الأحادية. حتى الدماء، في بعض الأحيان، كانت تأخذ لون الرماد. لكن اليوم، انتهى عصر اللون الرمادي، ستنمو أشجار الليمون من جديد، «كل ليمونة ستنجب طفلًا»، وستزهر سوريا كما كانت تستحق دائمًا.

بالنسبة لي، هذا الحدث لم يكن مجرد تحول سياسي، ولم يكن مجرد لحظة تاريخية تُضاف إلى صفحات الكتب، بل كان زلزالًا هزَّ وجدان كل عربيّ. قد لا يُصنَّف تمامًا كحدث سياسي أو أدبي، لكنه ترك أثرًا عميقًا في الروح، وفي ذاكرة عام 2024.

لولا القراءة، لما عرفتُ سوريا، لما سمعت عن مآسيها، وعن تحررها. لهذا، يجب ألا تتوقف أقلامنا عن الكتابة، عن التوثيق، عن التذكُّر. بالأمس كانت سوريا، بالأمس كانت فلسطين، واليوم تحررت إحداهما، فأدخلت الأمل في قلب الأخرى.

والآن، دعوني أُعيد السؤال ذاته: «أتراه خرج؟»

# أدب # سياسة # سوريا # مجتمع # منحة أبو الغيط للكتاب 2025

وهل الموت أمر سيئ؟
رامبو: البحث عن منفذ لخروج الجميع
شِعرُ المآسي: لسنا محتوى لعين لتشاهدوه

فن